بسم الله الرحمن الرحيم
--------------
أحد فصول العذاب
=========
في صباح يوم من أوائل أيام الشتاء وتحديدا" في 20 - 10 - 1983 ... كنت ورفاقي التسعة نخرج من زنزانة ضيقة
مساحتها أربعة أمتار مربعة ... كنا قد أمضينا فيها ليلتنا الآخيرة من الاسر عندالاسرائيليين
بدأ جنود العدو بتفتيش ثيابنا وأمتعتنا التي كنا نحملها من أعمالا يدوية ... كنا نقوم بصنعها ضمن المعتقل ... لم نكن نشعر
بالخوف من الصهاينه ... وكنا قد أخذنا قليلا من حريتنا داخل المعتقل ... بعد أن قدمنا بعض التضحيات من جرحى وقتلى ...
والحرية لا تأتي بدون ثمن ... وثمن الحرية هو الدم :
وللحرية الحمراء باب ...بكل يد مضرجة يدق
كنا قد توصلنا مع العدو الاسرائيلي على مفردات وصيغ تصون بعضا" من كرامتنا بعد أن قدمنا هذه التضحيات ... كنت
لا أصدق بأن الاسرائيليين سوف يطلقون سراحنا ... فقد كذبوا علينا كثيرا" ... وكنت أعتقد بأنهم سوف ينقولوننا الى سجن آخر
... جاء الصليب الاحمر الدولي وكان أكثرهم من النساء ... جاؤوا لكي يرافقوننا في طريق العود الى بلادنا .
الكرم الاسرائيلي
----------
قدم لنا اليهود وجبة الافطار الصباحية ... وأعطوا كل اسير أربعة علب من التبغ المصنع اسرائيليا" ...
دقت ساعة الصفر ... وبدأت مرحلة العودة الى الوطن ... فصعدنا الى الحافلة التي سوف تقلنا ...
بدأ الباص بالتحرك برفقة مندوبين الصليب الاحمر الدولي ... ونحن نرقص ونغني مبتهجين باطلاق سراحنا ... وكنا نحمل
أشواقا" لكل شيئ" في بلادنا ... ومن كثرة الحنين الذي قتلني اشتقت للحجر والشجر قبل البشر ... وكنت قد نذرت على
نفسي أن أقبل تراب الوطن قبل أن تطأ قدمي عليه ... وكنت أفكر باللقاء الذي يجمعنا مع أحبتنا عند الحدود السورية الاسرائيلية
وآتسائل بيني وبين نفسي عن نوعية ذلك اللقاء ... هل سيكون حارا" ...؟! ... يالله ... يالله ... ماأجمل ذلك اللقاء ... وماأجمل
الناس الذين سوف يستقبلوننا ... وماأجمل تلك اللحظات ... وينقطع حبل تفكيري وشرودي بلمسة من رفيقي أو هزة من هزات
الباص الذي يسير باتجاه فلسطين ( اسرائيل ) .
نحن كنا في جنوبي لبنا ن وفي منطقة اسمها ( انصار ) ... كان قد بنى الاسرائيليين عليها هذا المعتقل وسمي بمعتقل انصار
وكنت قد أمضيت سبعة عشر شهرا" في ذلك المعتقل ... وخلالها كنت ورفاقي في الاسر منعزلين عن العالم أجمع ولانرى
أحدا" من البشر ... كنا نعيش حياة همجية وبربرية ونحن في القرن العشرين ... كنا كطرزانا" يعيش في غابات افريفيا
وخرجنا الى المدنية والبناء ... فبهرتنا هذه الحضارة ... كنا كاأطفالا نعيش في بطون أمهاتنا وخرجنا الى الحياة ... فبهرتنا
هذه الحياة ... كنا كبشر نعيش في كوكب واكتشفنا بأن هناك حياة بشرية أخرى في كوكب آخر ...
كنا نعيش في زمن الانظمة الفاسدة
لا أستطيع أن أوصف هذه المشاعر بالقلم ... ولا يستطيع أي قلم في العالم أن يوصف مشاعري في تلك اللحظات الرائعة التي
خرجنا فيها من المعتقل ... لقد خرجنا من الظلمة الى النور ...
كان هناك بعض النسوة والاطفال اللبنانيين يهتفون ويلوحون لنا بالمناديل ونحن خارجون من المعتقل ... وكانوا ينثرون الارز
بأياديهم ... يالله ... ما أجمل هذا ... انهم يحيوننا كأننا أبطال ...
فهل نحن أبطال ...؟!
الله أعلم ...
فكل اسير منا له قصته ومعاناته الشخصية ...
هاهي المسافات تقطع ...
هاهي فلسطين الحبيبة تنادينا ...
فلبينا النداء ودخلناها
ولكن دخلناها مأسورين
فهل سيأتي يوم علينا ندخلها فاتحين ...؟
لا أظن ذلك في الوقت القريب ... فنحن الآن في زمن الفضائح والخيانات العربية ... نحن في زمن بيع الأوطان ... وبأبخس
الأثمان ... نحن نعيش في زمن المتاهة والضياع ... نعيش خارج التاريخ والزمان والمكان ...
اخيرا" وصلنا الى الحدود السورية الاسرائيلية ... وبدأنا بالنزول من الباص ...
كان هناك أحد الضباط الاسرائيليين الكبار بالعمر والرتبة يلبس بذة عسكرية مقلدة بالأوسمة الكثيرة يصافح باليد كل اسير ينزل
من الباص ... وجاء دوري فصافحني معتذرا" ومتحدثا" باللهجة العربية السورية وبطريقة دعابية عما بدر منهم من معاملة
سيئة خلال وجودنا في المعتقل فقال ( ستروا ما شفتوا منا ولا تعيدوها ومع السلامة وسلموا ) .
يتبع في الايام القادمة
وبعد المشاهدات
كتبت في عام 1985